فصل: (سورة البقرة: الآيات 149- 154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: الآيات 149- 154]:

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)}.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} أى ومن أى بلد خرجت للسفر {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} إذا صليت {وَإِنَّهُ} وإن هذا المأمور به. وقرئ {يعملون} بالتاء والياء. وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده، لأنّ النسخ من مظانّ الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان والحاجة إلى التفصلة بينه وبين البداء، فكرر عليهم ليثبتوا ويعزموا ويجدّوا، ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} استثناء من الناس، ومعناه، لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبًا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت: أى حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم يحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ قلت: كانوا يقولون ماله لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلت: كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة. ويجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبى العرب، إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون: بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم. وقرأ زيد بن على رضى اللَّه عنهما: ألا الذين ظلموا منهم، على أنّ ألا للتنبيه ووقف على حجة، ثم استأنف منبها {فَلا تَخْشَوْهُمْ} فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم {وَاخْشَوْنِي} فلا تخالفوا أمرى وما رأيته مصلحة لكم. ومتعلق اللام محذوف، معناه: ولإتمامى النعمة عليكم وإرادتى اهتداءكم أمرتكم بذلك أو يعطف على علة مقدّرة، كأنه قيل. واخشوني لأوفقكم ولأتمّ نعمتي عليكم. وقيل: هو معطوف على: {لِئَلَّا يَكُونَ}.
وفي الحديث: «تمام النعمة دخول الجنة» وعن على رضي اللَّه عنه «تمام النعمة الموت على الإسلام» {كَما أَرْسَلْنا} إمّا أن يتعلق بما قبله، أى: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، أو بما بعده: أى كما ذكرتكم بإرسال الرسول {فَاذْكُرُونِي} بالطاعة {أَذْكُرْكُمْ} بالثواب {وَاشْكُرُوا لِي} ما أنعمت به عليكم {وَلا تَكْفُرُونِ} ولا تجحدوا نعمائي.
{أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ} هم أموات بل هم أحياء {وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ} كيف حالهم في حياتهم.
وعن الحسن: أنّ الشهداء أحياء عند اللَّه تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد: يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. وقالوا: يجوز أن يجمع اللَّه من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرّة. وقيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر.

.[سورة البقرة: الآيات 155- 157]:

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم، هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر اللَّه وحكمه أم لا؟ {بِشَيْءٍ} بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} المسترجعين عند البلاء لأنّ الاسترجاع تسليم وإذعان. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من استرجع عند المصيبة جبر اللَّه مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحًا يرضاه». وروى أنه طفئ سراج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «إنا للَّه وإنا إليه راجعون» فقيل: أمصيبة هي؟ قال: «نعم كل شيء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة» وإنما قلل في قوله: {بِشَيْءٍ} ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم وإنما وعدهم ذلك قبل كونه ليوطنوا عليه نفوسهم. {وَنَقْصٍ} عطف على: {بِشَيْءٍ} أو على الخوف، بمعنى: وشيء من نقص الأموال.
والخطاب في: {وَبَشِّرِ} لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. وعن الشافعي رحمه اللَّه في الخوف: خوف اللَّه. والجوع: صيام شهر رمضان والنقص من الأموال: الزكوات والصدقات، ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، إذا مات ولد العبد قال اللَّه تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدى؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول اللَّه تعالى: ما ذا قال عبدى؟ فيقولون:
حمدك واسترجع، فيقول اللَّه تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. والصلاة:
الحنو والتعطف، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة. كقوله تعالى: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} {لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}. والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة. ورحمة أيّ رحمة. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر اللَّه. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}.
التفسير:
إنه تعالى لما أوجب بقوله: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي} جميع الطاعات ورغب بقوله: {ولا تكفرون} عن جميع المنهيات فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله، ندب إلى الاستعانة على تلك الوظائف بالصبر والصلاة. فالصبر قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى، والصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع والتذلل للمعبود والتدبر لآيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات والاجتناب عن جميع الفواحش والمنكرات {إن الله مع الصابرين} بالنصر والتأييد ومزيد التوفيق والتسديد {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [مريم: 76] وقيل: الصبر الصوم. وقيل: الجهاد بدليل قوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء} أي هم أموات بل هم أحياء. وعلى الوجه الأول كأنه قيل: استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني وسلوك سبيلي، فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوّي بأموالكم وأنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي، من قتله محبته فديته رؤيته. ثم إن أكثر المفسرين على أنهم أحياء في الحال، فمن الجائز أن يجمع الله تعالى من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة فيرى معظم جسد الشهيد ميتًا فلا يحس بحياته وإليه الإشارة بقوله: {ولكن لا تشعرون} ومما يؤيد هذا القول الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا} [غافر: 46] {أغرقوا فأدخلوا نارًا} [نوح: 25] والفاء للتعقيب وقال صلى الله عليه وسلم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران» ولم يزل أرباب القلوب يزورون قبور الشهداء ويعظمونها. وقيل: المعنى لا تسموهم بالأموات وقولوا لهم الشهداء الأحياء. أو المراد: قولوا لهم أحياء في الدين وإنهم على هدى ونور من ربهم لا كما يزعم المشركون أنهم ليسوا من الدين في شيء أو لا تقولوا مثل ما يقول منكرو البعث إنهم لا ينشرون وقد ضيعوا أعمارهم، ولكنهم سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة. وعلى هذه الوجوه لا يبقى لتخصيص الشهداء بكونهم أحياء فائدة وكذا لقوله مع المؤمنين ولكن لا تشعرون. وقيل: إن الثواب وكذا العقاب للروح لا للقالب، لأنه مدرك للجزئيات أيضًا فلا يمتنع أن يتألم ويلتذ.
ثم إنه سبحانه يرد الروح إلى البدن في القيامة الكبرى حتى يضم الأحوال الجسمانية إلى الإدراكات الروحانية. عن ابن عباس أن الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة» أي تأكل {ولنبوكم} ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه، أم تنقلبون على أعقابكم وتظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير؟ أمر أولًا بالشكر على إكمال الشرائع، ثم بالصبر على التكاليف الدينية، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب وبروق المصائب، ومعنى {بشيء} بيان من هذه الأشياء وأيضًا لو قال: بأشياء لأوهم أن من كل واحد من الخوف وغيره ضروبًا وليس بمراد. وفيه أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه، وفيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. واعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فإذا خطر ببالك وهو قد مضى سمي ذكرًا وتذكرًا، وإن كان في الحال سمي ذوقًا ووجدًا لأنها حالة تجدها من نفسك، وإن تعلق بالاستقبال وغلب خطوره على قلبك سمي انتظارًا وتوقعًا، فإن كان المنتظر مكروهًا حصل منه ألم في القلب يسمى خوفًا وإشفاقًا، وإن كان محبوبًا سمي ذلك ارتياحًا والارتياح رجاء. وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت. عن عطاء والربيع بن أنس: أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان {هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا} [الأحزاب: 11] وأما الجوع فقج أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يشد الحجر على بطنه. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال: ما أخرجك؟ قال: الجوع. قال: أخرجني ما أخرجك وكانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون. فهناك يحصل النقص في المال والنفس، وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله} إلى قوله: {إلا كتب لهم به عملٌ صالح} [التوبة: 120] وقد يكون النقص في النفس بموت الإخوان والأخدان. وإما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد.
وعن الشافعي: الخوف خوف الله، والجوع صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات، ومن الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد».
{ونقص} عطف على {شيء} ويحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى وشيء من نقص الأموال. والخطاب في {وبشر} لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. قال الإمام الغزالي رحمه الله: الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرًا، ولا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال وتمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال. وأما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء، ثم شهوة اللعب بعد حين، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها والإقبال على تحصيل السعادات الباقية، فيقع بين داعيتي العقل والشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر. وإنه ضربان: بدني فعلًا كتعاطي الأعمال الشاقة، أو انفعالًا كالثبات على الآلام، ونفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الطبع، فإن كان حبسًا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان احتمال مكروه، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر ويضاده حالة هي الجزع وهي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب ونحوها، وإن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس، ويضاده حالة البطر. وإن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلمًا ويضاده النزق، وإن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر ويضاده الضجر وضيق الصدر، وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدًا وضده الحرص، وإن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه ويضاده الشره. وليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن، وإنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع. ولا بأس بظهور الدمع وتغير اللون فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال: إنها رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. ثم قال: العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. ثم الصبر عند الصدمة الأولى وإلا سمي سلوًا وهو مما لابد منه ولهذا قيل: لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه.
وقد وصف الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعًا وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال: {وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا} [السجدة: 27] {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137] {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 96] {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] فما من طاعةٍ إلا وأجرها مقدر إلا الصبر، ولأن الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي «الصوم لي» فأضافه إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46] وعلق النصرة بالصبر فقال: {إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة} [آل عمران: 125] وجمع للصابرين أمورًا لم يجمعها لغيرهم {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} وقال صلى الله عليه وسلم: «الصبر نصف الإيمان» لأن الإيمان لا يتم إلا بترك ما لا ينبغي، والإتيان بما ينبغي والاستمرار على كل منهما إنما يتأتى بالصبر. فكل الإيمان صبر إلا أن كل واحدٍ منهما قد يكون مطابقًا لمقتضى الشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر، فلهذا عاد إلى النصف. وقد جاء «الإيمان هو الصبر» وذلك كقوله: «الحج عرفة» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر» وقال: «يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول تعالى لقد أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين» ومن فضيلة الصبر أن قال صلى الله عليه وسلم: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» فإن المشبه به يجب أن يكون أقوى كما قال: «شارب الخمر كعابد الوثن» وروي أن سليمان يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفًا لمكان ملكه، وآخر أصحابي دخولًا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه. وفي الخبر: أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد. وأول من يدخله أهل البلاء إمامهم أيوب. ثم إن الله تعالى بيّن أن الإنسان كيف يكون صابرًا وأنه متى يستحق البشارة فقال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة} هي من الصفات الغالية التي لا تكاد تستعمل موصوفاتها وتختص من بين ما يصيب الإنسان بحالة مكروهة كالنازلة والواقعة والملمة، وإنما نكرت لتشمل كل مضرة تناله من قبل الأسباب السماوية والأرضية المنتهية إلى مسبب الأسباب بواسطة ظاهرة أو خفية {قالوا إنا لله} إقرار بالعبودية {وإنا إليه راجعون} تفويض للأمر إليه كما يقال: إن الملك والدولة رجع إلى فلان لا يراد الانتقال بل القدرة وترك المنازعة {إنا لله} اعتراف منا له بالملك {وإنا إليه راجعون} إقرار على أنفسنا بالهلك {إنا لله} إشارة إلى المبدأ {وإنا إليه راجعون} تصريح بالمعاد.
{إنا لله} إعلام بالفناء فيه {وإنا إليه راجعون} إشعار بالبقاء به. {إنا لله} إيمان بقضائه {وإنا إليه راجعون} إيمان بقدره. واعلم أن الرضا بالقضاء إنما يحصل للعبد من الله تعالى بطريقين: الصرف أو الجذب أما الصرف فمتى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إليه جعله تعالى منشأ للآفات لينصرف وجه قلبه من عالم الحدوث إلى جانب القدس، كما أن آدم لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله. ولما استأنس يعقوب بيوسف أوقع الفراق بينهما فبقي يعقوب مع ذكر الحق. ولما طمع محمد صلى الله عليه وسلم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس بغضًا له فأخرجوه. وقد لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة، فحينئذ يرجع العبد إلى الله. وقد يتوقع العبد من جانب خيرًا فيعطيه الله تعالى ذلك بلا واسطة فيستحي العبد فيرجع إلى الله. وأما الجذب فجذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين. ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوبًا لأن الحق غالب فتصير الربوبية غالبة على العبودية، والحقيقة مستعلية على المجاز، كالعبد الداخل على السلطان المهيب ينصرف فكره إليه ويشتغل بالكلية عمن سواه ويصير فانيًا عن نفسه وعن حظوظها فيحصل له مرتبة الرضا بأقضية الحق سبحانه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفًا صالحًا يرضاه» وروي أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} فقيل: أمصيبة هي؟ قال: نعم. كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة. وعن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به» من قوله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} «اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني منها وعوّضني خيرًا منها ألا أجره الله عليها وعوضه خيرًا منها» قالت: فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت: هذا القول فعوّضني الله محمدًا صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: أخبر الله تعالى أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال: الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى. وعن عمر قال: نعم العدلان {إنا لله وإنا إليه راجعون} {أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة} ونعم العلاوة {وأولئك هم المهتدون}.
قيل: الصلوات من الله الثناء والمدح والتعظيم، والرحمة النعم العاجلة والآجلة. وقيل: الصلاة الحنو والتعطف وضعت موضع الرأفة كقوله: {رأفة ورحمة} {رؤف رحيم} والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة أيّ رحمة {وأولئك هم المهتدون} لطريق الصواب والفائزون بالكرامة والثواب، أو هم المستمسكون بآدابه المستنون بما ألزم وأمر وفي الآية حكمان: فرض ونفل. فالفرض هو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرفه عنها مصائب الدنيا، والنفل قوله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} فإن في إظهاره فوائد منها: أن غيره يقتدي به إذا سمعه، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته. وأما الحكمة في تقديم تعريف الابتلاء فهي أن يوطنوا نفوسهم لهذه المصائب إذا وردت فتكون أبعد من الجزع. وأيضًا إذا علموا أنه سيصل إليهم تلك المحن اشتد حزنهم فيكون ذلك الحزن تعجيلًا للابتلاء فيستحقون بذلك مزيد الثواب. وأيضًا إذا أخبروا بوقوع هذا الابتلاء ثم وقع كان ذلك إخبارًا بالغيب فيكون معجزةً. وأيضًا فيه تنفير وتمييز له عن الموافق. كما أن الحكمة في نفس الابتلاء أيضًا ذلك.
دعوى الإخاء على الإخاء كثيرة ** بل في الشدائد تعرف الإخوان

إذا قلت أهدى الهجر إن خلل البلى ** يقولون لولا الهجر لم يطب الحب

وإن قلت كربي دائمُ قالت إنما ** يعدّ محبًا من يدوم له الكرب

وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبةً ** حياتك ذنب لا يقاس به ذنب